الدعاة الصامتون
صفحة 1 من اصل 1
الدعاة الصامتون
قد يتبادر إلى ذهن من يسمع هذا العنوان أننا نعني بالحديث عن الدعاة الصامتين أولئك الذين صمتوا عن بيان كلمة الحق و أولئك الذين قعدوا عن سبيل الدعوة إلى الله.
و هؤلاء إنما هم شياطين خرس ليسوا جديرين بوصف الدعوة. إن الذين يسكتون عن الحق حين يجب بيانه والذين يقعدون عن نصرة هذا الدين خاصةً في هذا العصر الذي تكالب فيه الأعداء على هذه الأمة و كشروا عن أنيابهم و أعلنوها حرباً ضروساً ضد الإسلام و على كل من دعا إلى سبيل الله عز وجل - إن أولئك الذين يقفون على الحياد في هذه المعركة التي تعيشها الأمة ليسوا جديرين بأن يوصفوا بأنهم دعاة صامتون ، إنما هم شياطين خرس فالساكت عن الحق شيطان أخرس.
لكننا نعني بالدعاة الصامتين أولئك الذين يدعون إلى الله عز وجل بأحوالهم ، أولئك الذين تبلغ أحوالهم عن دعوتهم ؛ فهم يدعون الناس بأفعالهم وسيرهم وأحوالهم ، إنهم لم يتكلموا ولم ينطقوا وربما كانت أحوالهم وسيرهم أبلغ من أي كلمة و أي بيان.
وقفة مع نصوص القرآن الكريم:
أولاً: أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالتأسي بمن سبقه من الأنبياء و الاقتداء بهديهم يقول تبارك و تعالى عن إبراهيم: ((ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود و سليمان و أيوب و يوسف و موسى و هارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاً فضلنا على العالمين * ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم * ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده و لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون* أولئك الذين آتيناهم الكتاب و الحكم و النبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسو بها بكافرين * أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين )).
إن الله تعالى يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهدى أولئك الذين قص عليه سيرهم أنباءهم في هذا الكتاب ، و هذا الخطاب ليس للنبي صلى الله عليه وسلم وحده بل هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم و لأمته من بعده.
ثانياً: أمر الله نبيه و أمته من بعده أن يتأسى بإبراهيم عليه السلام و من معه ((قد كان لكم أسوة حسنة في إبراهيم و الذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم)) و قال ((لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة)).
ثالثاً: أمر الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالتأسي به فقال: ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر و ذكر الله كثيراً)).
رابعاً: نهى تبارك و تعالى عن التناقض بين القول و العمل و ذم ذلك المسلك و عابه ((يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)) ،وعاب تبارك وتعالى على بني إسرائيل أنهم نسوا أنفسهم إذ يأمرون بالبر غيرهم ((أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم و أنتم تتلون الكتاب)). و تتوالى الآيات في الكتاب التي تدعو المؤمنين إلى أن يكون العمل مصداقاً للقول و ما يدعو إليه الإنسان ((و من أحسن قولاً ممن دعا إلى الله و عمل صالحاً و قال إنني من المسلمين)) و قد استنبط بعض المفسرين من هذه الآية أن فيها الأمر بأن يعمل الداعية بما يقول وبما يدعو إليه.
خامساً: قص القرآن قصص بعض الصالحين و السابقين فيما مضى و يقول تبارك و تعالى: ((أم حسبت أن أصحاب الكهف و الرقيم كانوا من آياتنا عجباً *إذ أوى الفتية إلى الكهف…)) الآيات وهي آيات يقرأها المسلم كل أسبوع يوم الجمعة، يقرأ قصة هؤلاء الفتية من أهل الكهف ، ويقرأ في القرآن الكريم قصة أصحاب الأخدود ، و قصة سحرة فرعون حينما آمنوا بموسى و قالوا لفرعون (فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا).
ويذكر الله تعالى في القرآن أحوال بعض الذين عاصروا التنزيل فأثنى الله عز وجل على مواقفهم أبقاها خالدة تتجاوز حدود الزمان و المكان الذي كانت فيه لتبقى منارة للأجيال من بعدهم ((من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً)).
سادساً: أخبر تبارك وتعالى أنه تاب على النبي و المهاجرين و الأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كان يزيغ قلوب فريق منهم, ثم قال تعالى(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و كونوا مع الصادقين)) و قال في موضع آخر: ((للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلاً من الله و رضواناً و ينصرون الله و رسوله أولئك هم الصادقون* والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم و لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة))، و هي آيات كثيرة تقرأها في كتاب الله عز وجل في الثناء على تلك المواقف التي وقفها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
إنها صور يخلدها لنا القرآن من هذه النماذج من أتباع الأنبياء السابقين أو من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
و يقص علينا النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً قصصاً أخرى من مواقف هؤلاء الصابرين ، و من مواقف الذين دعوا إلى الله عز و جل و بذلوا أرواحهم و أنفسهم و أموالهم في سبيل الله عز و جل, إننا نقرأ في سيرة محمد صلى الله عليه وسلم سيرة شاب آمن بالله و دعا قومه و ضحى بنفسه في سبيل الله حتى آمن أهل قرية و هم يرون هذا الموقف من هذا الشاب و قد جاد بنفسه في سبيل الله فتنادى الناس جميعاً آمنا بالله رب الغلام ، لتنطلق هذه الكلمة سهماً آخر يتجه إلى صدور الذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات بعد أن أحرقهم و قطع أحشاءهم ذلك السهم الذي انطلق من قلب هذا الغلام الصادق الذي ضحى بنفسه في سبيل الله عز و جل، و ظن أولئك المفسدون المجرمون أنهم حين يقتلون هذا الغلام سيقتلون الدعوة التي دعا إليها وأنهم سيدفنون هذا الدين الذي آمن به و دعا له فإذا بهم يسمعون الناس يتنادون: آمنا بالله رب الغلام. إن النبي صلى الله عليه وسلم حين قص علينا هذه القصة ، أو حين قص علينا قصة نفر آواهم المبيت إلى الغار فدعوا الله عز و جل بصالح أعمالهم, أو حين قص علينا قصة تمثل نموذج الشاكر لله عز وجل و نموذج المعرض عن شكر هذه النعمة في قصة الأعمى و الأقرع والأبرص و غيرها التي تملأ دواوين السنة ، إن النبي صلى الله عليه وسلم حين قص علينا هذه النماذج إنما يعرضها أمام أمته لتكون قدوة لمن يقرأ هذه الأخبار ولمن جاء بعدهم ويصبح أولئك الماضون دعاة صامتين لدين الله عز و جل.
سابعاً: أمر الله تبارك و تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلو على المؤمنين سيرة ابني آدم بالحق إذ قتل أحدهما أخاه ظلماً و عدوانا فصار من الدعاة الصامتين للجريمة و القتل، فما من نفس تقتل ظلماً إلا صار على ابن آدم الأول كفل منها إذ هو أول من سن القتل ، كل ذلك تأصيل للقدوة و الأسوة الحسنة ، و دعوة للدعاة إلى الله على منهج النبوة أن يترسموا معالمها ، و هو أيضاً تأصيل لمبدأ التأثير بالسلوك والعمل وامتداد ميدان الدعوة والمخاطبة لتتجاوز الكلمة المجردة فتمتد عبر ميدان فسيح لتصبح الكلمة وسيلة من الوسائل وأسلوباً من الأساليب لا أن تحصر الدعوة في الكلمة وحدها.
الداعية الأول و الدعوة الصامتة:
إن الدعاة إلى الله سبحانه و تعالى مهما علا شأن قضية الدعوة لديهم ومهما ابتكروا من الأساليب و الوسائل فهم رهن منهج الداعية الأول و الإمام الأوحد صلى الله عليه وسلم، و التحرر من ذلك يعني التحرر من المنهج والعدوان على السنة المتبعة وولوج الطريق المبتدعة ، لذا فنحن نطالب و ندعو أن تأخذ الدعوة بعداً شمولياً لدى أصحابها, أن تأخذ هذا البعد الذي يتجاوز الجمود على الأساليب التقليدية التي يرثونها ، فنحن أيضاً مع ذلك ندعو أن تحاط الدعوة إلى الله عز وجل سياج اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، و أن لا يكون ذلك مدعاةً لتجاوز هديه ، لهذا كان كل داع إلى الله عز وجل أحوج ما يكون إلى أن يحشد النصوص ويحشد الآثار التي تؤيد هذا المنهج الذي يدعو إليه، والتي تعلن للناس أنه لم يأت ببدعه من القول.
في الحديبية دعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس بأن ينحروا بدنهم و أن يحلقوا رؤوسهم فلم يستجب أحد للنبي صلى الله عليه وسلم و قد أصاب الناس ما أصابهم ذلك أنهم جاءوا إلى هذا المكان وهم قد سمعوا الوعد منه صلى الله عليه وسلم أن يدخلوا البيت الحرام و أن يطوفوا بالبيت آمنين محلقين رؤوسهم و مقصرين لا يخافون، فحين أمرهم بهذا الأمر وحين رأوا مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم لقريش وشدهم ذلك الموقف رأوا أبا جندل يرسف في قيوده فيعيده النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشركين ،لم يطق ذلك المؤمنون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يستجب أحد لأمره فيأتي صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة رضي الله عنها فتشير عليه بأن يخرج و لا يكلم أحدا فيدعو بالحلاق فيحلق رأسه، ثم ينحر بدنه فيخرج صلى الله عليه وسلم فيفعل ذلك فيجتمع الناس حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً.
وكان صدق حاله صلى الله عليه وسلم من أعظم ما استدل به بعض من آمن على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم و من هؤلاء عبدالله بن سلام رضي الله عنه إذ قال بعد أن رآه قال: فعرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب. لقد كانت حال النبي صلى الله عليه وسلم ناطقة بصدقه و أنه لم يكن ينطق عن الهوى ، و أنه كان يؤتي الوحي من الله تبارك و تعالى، و أنه كان يأتيهم بخبر من السماء , لذلك كانت حاله وحدها كافية في دعوة الكثيرين إلى الإسلام فمن رآه صلى الله عليه وسلم عرف الصدق في وجهه. و منهم من دخل في الإسلام و آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم لموقف أبصره أو مشهد رآه ، و السيرة تزخر بالكثير من هذه المواقف التي دخل فيها فئام من الناس الإسلام لما رأوه من المواقف ، واختار الله له أن يكون في مبدأ حياته أميناً صادقاً ليكون ذلك مرآة على صدقه، و ليقرأ في سيرته وهديه من سمع بدعوته ؛ الصدق وسمو المنهج ، لقد كان صلى الله عليه وسلم يلقب بالصادق الأمين ، لقد عاش صلى الله عليه وسلم مع قومه أربعين سنة عرفوا منه الصدق والإحسان إلى الناس و الأمانة ، عرفوا منه صلى الله عليه وسلم حسن الخلق ولم يكن يجاريهم في مجونهم ولهوهم ، إن تلك الحال التي كان يعيشها صلى الله عليه وسلم كانت دعوة صامتة وإشارة إلى أولئك الجادين في معرفة الحق أن هذا الرجل الذي عرفوا مدخله و مخرجه ، وعرفوا سيرته لم يكن ليكذب على الله بعد أن كان يتحاشى الكذب على الناس.
وهو أمر لم يختص به النبي صلى الله عليه وسلم بل يحكي الله تبارك و تعالى عن قوم صالح أنهم قالوا ((قد كنت فينا مرجواً قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا))، فقد كانت سيرة صالح في قومه كسيرة محمد صلى الله عليه وسلم و سائر الأنبياء و قد كانوا يرجون فيه الخير ، فلما دعاهم إلى الله تعالى خاب ظن أولئك الظالمين بنبيهم صالح.
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يترسمون معالم المنهج :
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يترسمون منهجاً اختطه لهم النبي صلى الله عليه وسلم لكي تعيش الدعوة حيةً في قلوبهم و ضمائرهم ، فيقرأ ذلك من يطلع على سيرهم قبل أن يسمع أقوالهم ، حين دعا النبي الناس للصدقة و قد جاء قوم وجتاب النمار فرقَّ صلى الله عليه وسلم و هو صاحب القلب الرحيم لحالهم فتألم وخطب الناس دعاهم بأن يتصدقوا بما يملكون من درهمهم و دنانيرهم ، من صاع برهم وتمرهم ، فلم يتصدق أحد فجاء رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع صرة كادت يده أن تعجز عنها بل عجزت فألقاها بين يدي النبي فتتابع الناس بعد ذلك فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم فصار هذا الرجل داعية صامتاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها إلى يوم القيامة , ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة".
وحين استنفر النبي الناس ليغزو الروم ولم يعذر أحداً في ذلك جاء أقوام لا يجدون ما يحملهم يسألون النبي أن يحملهم فلم يجد صلى الله عليه وسلم ما يحملهم فتولوا يبكون لأنهم لم يجدوا ما ينفقون ، ولم يستطيعوا أن يجاهدوا في سبيل الله ، فخلّد القرآن ذكرتهم و سيرتهم ليكون هذا الموقف دعوة لمن جاء بعدهم أن يعيش كما كان يعيش أولئك. إن من لم يفتح له الميدان للجهاد لا يعذر إلا أن يعيش معهم بقلبه وحاله ، وأن ينصح لله ورسوله.
هاهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبعثون رسالة إلى عروة بن مسعود يرجع مشدوهاً لأصحابه يحدثهم بما رأى وقد أدرك أنه أمام جيل آخر دون أن يكون منهم تعبير باللسان.
وهاهي سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تبقى صورة للأجيال ناطقة إذا أراد ، فما أن يتحدث متحدث أو يتكلم متكلم إلا يضطر أن يزين مقالته بمواقف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله وتعلم العلم وغيره من الميادين ؛ ليبقى ذلك الجيل داعية إلى سائر الأجيال في كل صور الدعوة بميدان الجهاد والعلم والعبادة وغيرها.
مزايا الدعوة الصامتة :
إننا حين ندعو إلى أن نكون دعاة لدين الله تبارك و تعالى صامتين بأحوالنا و مواقفنا وسيرنا ونستشهد بذلك بسيرة المصطفى وسيرة أصحابه ومواقف سلف الأمة من بعدهم، نجمع مع إدراك فضيلة التأسي والاقتداء تحصيل مزايا تمتاز بها هذه الدعوة الصامتة ، ومنها :
أولاً: أن الدعوة بالأحوال أبلغ من الدعوة بالقول ؛ فالمرء يستطيع أن يدبج المقال ، و يستطيع أن يحسن الحديث ، وأن يتفوه بما لا يعتقد ، لكن أن يكون ذلك المقال مصداقه حال ذلك الرجل وفعله فهي صورة أخرى وحالة أخرى. لقد أمر النبي الناس أن يحلقوا رؤوسهم وأن ينحروا بدنهم ، وما كان الذين أمرهم النبي من الذين يتلكؤون بالاستجابة وهم أسرع الناس مبادرة للاستجابة إلى أمره صلى الله عليه وسلم و طاعته ، لكن ذلك الأمر القولي أبلغ من حاله حين خرج وحلق ونحر ؛ فكان ذلك الفعل رسالة إلى الناس للاستجابة له صلى الله عليه وسلم ، و لهذا لما أرسل له صلى الله عليه وسلم يوم عرفة بقدح لبن شربه أمام الناس فكان أبلغ دلالة على أنه لم يكن صائماً.
ثانياً: الدعوة الصامتة تدرك من جميع الطبقات ؛ فالكلمة المسموعة أو المقروءة قد يفوق تأثيرها اختلاف المستويات أو مدارك الناس ، والذي يتحدث أمام من ينصت له ، أو يكتب لمن يقرأ له بجد نفسه بين خيارين ، إن حسَّن المقال و ارتفعت لغته فيكون هناك من لا يدرك هذا الكلام أو من لا يفهمه ، وإن كان مقاله دون ذلك شعر المخاطَب أن هذا نزولاً بالكلمة عما تليق بها. أما الذي يدعو الناس بحاله فهو يدعو بدعوة يدركها الجميع و يفهمون مغزاها.
ثالثاً: إن الكلام له أثر عظيم على النفوس ، وكم تترك الكلمة الصادقة من أثر ؟ بل كم تصنع من مواقف ؟ لكن الكلمة الصادقة مهما كانت تبقى عرضة للنسيان ، إنها تبقى فترة ثم تزول ، أما الموقف فإنه يبقى في الذاكرة لا يزول أبداً ، إن النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم كان مع أصحابه فرأى جارية من السبي تأتي لرضيعها و تضمه و ترضعه ؛ فيثيره الموقف صلى الله عليه وسلم وهو الرجل الذي كانت قضية الدعوة وقضية التعليم قضية حية في ضميره صلى الله عليه وسلم فيخاطب أصحابه قائلاً لهم : "أترون هذه طارحة ولدها في النار"؟ فيقول أصحابه : لا ، فيقول صلى الله عليه وسلم :"لله أرحم بعبده من هذه بولدها" فيمضي هذا الموقف ، إن الذين سمعوا الكلمة من النبي صلى الله عليه وسلم ربما ينسون حديثاً منه صلى الله عليه وسلم أما إذا رأوا امرأة ترضع ابنها فإنهم يتذكرون ذلك الموقف الذي سمعوا فيه تلك الكلمة منه صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: إن الكلمة أيضاً تترك أثراً على الناس و تدعوهم إلى العمل والسلك ، لكن ربما يظن البعض من الناس أن هذه الصور التي يتحدث عنها المتحدث أنها صورة مثالية يصعب تطبيقها ، و إذا أمكن تطبيقها فهي في هذا الزمان الذي مرجت فيه العهود وفسد فيه الناس تستعصي على التطبيق ، أما حين تكون دعوة في الحال و موقفاً يراه الناس فإنها دعوة لكل من يرى هذا الموقف أن هذه الصورة يمكن أن تحدث ، إن الذي يسمع عن مواقف الاستشهاد في سبيل الله ربما يهزه هذا الموقف لكنه قد يشعر أن النفوس البشرية لا تطيق هذا القدر من التضحية ، أما حين يرى هذه النماذج أمام عينه فسيدرك أن هذه القضية ترقى إلى ميدان الواقع ، إنه حين يسمع عن الإنفاق في سبيل الله فيرى من يجود بماله، سيترك أثراً في نفسه أقوى بكثير من أثر الكلمة مهما عظمت فصاحتها.
و لهذا اختار الله تعالى أن يكون أنبياؤه من البشر يأكلون الطعام و يمشون في الأسواق ليكونوا قدوة وأسوة للناس.
خامساً: الدعوة الصامتة أعظم إجابة على سبل المضلين والمفسدين ، إن الصراع لا يمكن أن يقف بين أهل الحق و الباطل و ما يلبث أهل الباطل أن يثيروا الشبهات أمام دعاة الحق فيتهمونهم بأبشع التهم ، وهي تهم ورثوها من فرعون حين قال: ((ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو يظهر في الأرض الفساد)), لقد كانوا يتهمون الأنبياء بأنهم سحرة و مجانين وأن أتباعهم ضعفاء ، و اتهموا النبي صلى الله عليه وسلم أنه صابئ و أنه مجنون و ساحر ، و أنه يفرق بين المرء وزوجه ، وما يزال المفسدون الأفاكون الظالمون يثيرون الشبه والتهم على من يتبع سنة الأنبياء ويسير على طريقتهم ؛ فحين تكون حال هؤلاء حالاً صادقة للناس يصبح ذلك أعظم إجابة على كذب هؤلاء وإفكهم.
ما هي مجالات الدعوة الصامتة ؟
1- القدوة والأسوة الحسنة وقد مر بنا نماذج كثيرة تغني عن الاستطراد.
2- التفوق في مجالات الحياة المختلفة ؛ فحين يكون الصالحون والدعاة إلى الله عز وجل هم المتفوقون في مجالات الحياة المختلفة ، فهم المتفوقون في دراستهم و في ميادين العمل ، وهم العاملون الصادقون الذين إذا دخلوا إلى مجال فهم المتفوقون دوماً ، فإن هذا يعطي دلالة على أن هؤلاء صادقون ، وهذا يثبت للناس بطلان ما يسعى إليه الأعداء حين يحاولون أن يفسروا هذه الصحوة بأنها إفراز لحالة نفسية و اقتصادية.
3- الإحسان إلى الناس وتقديم البر لهم والخدمة، لقد كان صلى الله عليه وسلم كما حكت عنه زوجه : يكرم الضيف، ويعين على نوائب الحق، وكان يشفع للناس ويحسن حتى إلى الحيوان، فعندما رأى جملاً قد احدودب ظهره زرفت عينا الجمل إذ رأى في قلبه الرحمة والإحسان فيأتي إليه صلى الله عليه وسلم فيسأل :"أين صاحب هذا الجمل ؟" فيقول: أنا. فيقول: "اتق الله؛ فإنه شكى إلي أنك تجيعه و تتعبه". إن النبي صلى الله عليه وسلم يرسم لنا الأسوة والقدوة في أن نحسن إلى الناس، وأن نسعى إلى تبني قضاياهم وهو من قبله، فهاهو يوسف عليه السلام يقول له أصحابه ((نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين)), فقد رأيا فيه الإحسان إليهما، فالإحسان باب من أبواب الخير، و طريق للتعرف على الناس فيعرف الناس بأن هؤلاء صادقون وأنهم مخلصون.
4- كظم الغيظ و التنازل عن الحقوق الشخصية يقول تعالى (و لا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم)). ويقول تعالى: ((والكاظمين الغيظ و العافين عن الناس)) ،حين يعرف الناس عنا أنا نتنازل عن الحقوق الشخصية ونعفو عمن ظلمنا بل نحسن إليه سيترك ذلك أثره فيهم. حين فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة وتمكن من أعدائه الذين فعلوا معه ما فعلوا وآذوه و أخرجوه، وكانوا يظنون أن هذا الموقف سيكون فيه حتفهم فأطلقهم صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم، وكان ذلك من أعظم الأسباب في دخول كثير منهم في الإسلام؛ لأنهم عرفوا منه الصدق والأمانة والعفو والإحسان قبل أن ينبَّأ، و عرفوا منه ذلك بعد أن نُبَّيءَ وأرسل. وعرفوا منه ذلك بعد أن عادوه و آذوه، وهاهو أحد الصحابة يقول كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء آذوه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه و يقول (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)).
5- الصدق في الدعوة ورفع شعار الخير والصلاح، في صلح الحديبية جاء رجل من بني كنانة موفداً من قريش، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له" فبعثت له؛ فاستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: "سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، ورجع من فوره دون أن يسمع كلمة واحدة من النبي صلى الله عليه وسلم.
6- العاطفة الصادقة المتوقدة في النفس الداعية، وهي إفراز لمشاعر صادقة تكمن في نفسه ما تلبث أن تبدو على أرض الواقع، وعلى سلوكه وفي قسمات وجهه؛ فيقرأها كل من يراه لتترك أثراً يفوق ألف خطبة و ألف محاضرة، ويشعر الناس الذين يتعاملون مع هذا الصنف من الناس بما يحركهم ويدفعهم من الداخل، وما نزال نسمع الكثير ممن يتحدث عن العاطفة حديث الذم و النقد، حتى صار من مراتب الجرح والتنقص أن يقال عن شخص إنه عاطفي متحمس، وهذا الذم لهذا الصنف صار مهرباً لبعض من قد تبلد حسه تجاه المنكرات ومصائب الأمة، فصار حين يطلب منه التفاعل أو تُشتكى إليه الحال يتنهد قائلاً إن الأمور لا تحل بالعواطف ولا تعالج بالحماس، نعم إن الإغراق في العواطف مرفوض، والانطلاق وراء الحماس وحده تهور، لكن الدعوة إلى إلغاء ذلك كله تطرف هو الآخر، ولعل سائل يتساءل هل خلق الله تعالى هذه العواطف عند الناس عبثاً، لم يعد يقبل أهل الطب اليوم أن يكون هناك عضو لا يؤدي دوراً فكيف يقبل أن تكون هذه المشاعر المشتركة لدى العامة من الناس ـ والتي تمثل وقوداً للأعمال و مواقف شتى يقوم بها المرء ـ عبثاً لا فائدة منه و يذم المرء حين يتصف به. إننا حين نذم أولئك الذين يتهورون والذين لا يدفعهم إلا الحماس غير المنتظم، إن هذا لا يقودنا أبداً إلى أن نعذر أولئك المثبطين القاعدين الذين قد تبلد حسهم وماتت أرواحهم، وهم يرون الأمة تُنحر، فهم قد ارتكبوا منكراً آخر قد يكون أشد من منكر أولئك ألا وهو السكوت والقعود عن الحق.
7- المواقف المتميزة التي تشكل صدى لدى معاصريها و معايشيها، وتمتد بعد ذلك عبر أفق الزمن لتخترق حواجزه وتصبح منارة للأجيال، إنك لو تصفحت سير الصحابة فستجد عبارات بالأمر بالصبر و الوصاة به بالأمر بالثبات على المبدأ، لكن ذلك لم يكن مثل المواقف التي سطروها رضوان الله عليهم بالصبر على البلاء و المضايقة، فلا يزال في ذاكرة المسلمين أجمع وما يفتأ الخطباء والمتحدثون يرددون صوراً من صبر بلال وعمار، وتضحية ياسر وسمية، لا يزال هؤلاء يتذكرون تلك الصور، وتترك في نفوسهم أثرا لا تقاربه الأقوال والعبارات.وهكذا تبقى المواقف الصادقة منارة للجيل يقرأها المعاصرون فيكون هؤلاء الذين وقفوا هذه المواقف دعاة للأمة بمواقفهم، ثم يبقون بعد ذلك دعاة للجيل من بعدهم.
هذا و صلى الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
الشيخ الدويش
و هؤلاء إنما هم شياطين خرس ليسوا جديرين بوصف الدعوة. إن الذين يسكتون عن الحق حين يجب بيانه والذين يقعدون عن نصرة هذا الدين خاصةً في هذا العصر الذي تكالب فيه الأعداء على هذه الأمة و كشروا عن أنيابهم و أعلنوها حرباً ضروساً ضد الإسلام و على كل من دعا إلى سبيل الله عز وجل - إن أولئك الذين يقفون على الحياد في هذه المعركة التي تعيشها الأمة ليسوا جديرين بأن يوصفوا بأنهم دعاة صامتون ، إنما هم شياطين خرس فالساكت عن الحق شيطان أخرس.
لكننا نعني بالدعاة الصامتين أولئك الذين يدعون إلى الله عز وجل بأحوالهم ، أولئك الذين تبلغ أحوالهم عن دعوتهم ؛ فهم يدعون الناس بأفعالهم وسيرهم وأحوالهم ، إنهم لم يتكلموا ولم ينطقوا وربما كانت أحوالهم وسيرهم أبلغ من أي كلمة و أي بيان.
وقفة مع نصوص القرآن الكريم:
أولاً: أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالتأسي بمن سبقه من الأنبياء و الاقتداء بهديهم يقول تبارك و تعالى عن إبراهيم: ((ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود و سليمان و أيوب و يوسف و موسى و هارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاً فضلنا على العالمين * ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم * ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده و لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون* أولئك الذين آتيناهم الكتاب و الحكم و النبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسو بها بكافرين * أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين )).
إن الله تعالى يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهدى أولئك الذين قص عليه سيرهم أنباءهم في هذا الكتاب ، و هذا الخطاب ليس للنبي صلى الله عليه وسلم وحده بل هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم و لأمته من بعده.
ثانياً: أمر الله نبيه و أمته من بعده أن يتأسى بإبراهيم عليه السلام و من معه ((قد كان لكم أسوة حسنة في إبراهيم و الذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم)) و قال ((لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة)).
ثالثاً: أمر الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالتأسي به فقال: ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر و ذكر الله كثيراً)).
رابعاً: نهى تبارك و تعالى عن التناقض بين القول و العمل و ذم ذلك المسلك و عابه ((يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)) ،وعاب تبارك وتعالى على بني إسرائيل أنهم نسوا أنفسهم إذ يأمرون بالبر غيرهم ((أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم و أنتم تتلون الكتاب)). و تتوالى الآيات في الكتاب التي تدعو المؤمنين إلى أن يكون العمل مصداقاً للقول و ما يدعو إليه الإنسان ((و من أحسن قولاً ممن دعا إلى الله و عمل صالحاً و قال إنني من المسلمين)) و قد استنبط بعض المفسرين من هذه الآية أن فيها الأمر بأن يعمل الداعية بما يقول وبما يدعو إليه.
خامساً: قص القرآن قصص بعض الصالحين و السابقين فيما مضى و يقول تبارك و تعالى: ((أم حسبت أن أصحاب الكهف و الرقيم كانوا من آياتنا عجباً *إذ أوى الفتية إلى الكهف…)) الآيات وهي آيات يقرأها المسلم كل أسبوع يوم الجمعة، يقرأ قصة هؤلاء الفتية من أهل الكهف ، ويقرأ في القرآن الكريم قصة أصحاب الأخدود ، و قصة سحرة فرعون حينما آمنوا بموسى و قالوا لفرعون (فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا).
ويذكر الله تعالى في القرآن أحوال بعض الذين عاصروا التنزيل فأثنى الله عز وجل على مواقفهم أبقاها خالدة تتجاوز حدود الزمان و المكان الذي كانت فيه لتبقى منارة للأجيال من بعدهم ((من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً)).
سادساً: أخبر تبارك وتعالى أنه تاب على النبي و المهاجرين و الأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كان يزيغ قلوب فريق منهم, ثم قال تعالى(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و كونوا مع الصادقين)) و قال في موضع آخر: ((للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلاً من الله و رضواناً و ينصرون الله و رسوله أولئك هم الصادقون* والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم و لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة))، و هي آيات كثيرة تقرأها في كتاب الله عز وجل في الثناء على تلك المواقف التي وقفها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
إنها صور يخلدها لنا القرآن من هذه النماذج من أتباع الأنبياء السابقين أو من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
و يقص علينا النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً قصصاً أخرى من مواقف هؤلاء الصابرين ، و من مواقف الذين دعوا إلى الله عز و جل و بذلوا أرواحهم و أنفسهم و أموالهم في سبيل الله عز و جل, إننا نقرأ في سيرة محمد صلى الله عليه وسلم سيرة شاب آمن بالله و دعا قومه و ضحى بنفسه في سبيل الله حتى آمن أهل قرية و هم يرون هذا الموقف من هذا الشاب و قد جاد بنفسه في سبيل الله فتنادى الناس جميعاً آمنا بالله رب الغلام ، لتنطلق هذه الكلمة سهماً آخر يتجه إلى صدور الذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات بعد أن أحرقهم و قطع أحشاءهم ذلك السهم الذي انطلق من قلب هذا الغلام الصادق الذي ضحى بنفسه في سبيل الله عز و جل، و ظن أولئك المفسدون المجرمون أنهم حين يقتلون هذا الغلام سيقتلون الدعوة التي دعا إليها وأنهم سيدفنون هذا الدين الذي آمن به و دعا له فإذا بهم يسمعون الناس يتنادون: آمنا بالله رب الغلام. إن النبي صلى الله عليه وسلم حين قص علينا هذه القصة ، أو حين قص علينا قصة نفر آواهم المبيت إلى الغار فدعوا الله عز و جل بصالح أعمالهم, أو حين قص علينا قصة تمثل نموذج الشاكر لله عز وجل و نموذج المعرض عن شكر هذه النعمة في قصة الأعمى و الأقرع والأبرص و غيرها التي تملأ دواوين السنة ، إن النبي صلى الله عليه وسلم حين قص علينا هذه النماذج إنما يعرضها أمام أمته لتكون قدوة لمن يقرأ هذه الأخبار ولمن جاء بعدهم ويصبح أولئك الماضون دعاة صامتين لدين الله عز و جل.
سابعاً: أمر الله تبارك و تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلو على المؤمنين سيرة ابني آدم بالحق إذ قتل أحدهما أخاه ظلماً و عدوانا فصار من الدعاة الصامتين للجريمة و القتل، فما من نفس تقتل ظلماً إلا صار على ابن آدم الأول كفل منها إذ هو أول من سن القتل ، كل ذلك تأصيل للقدوة و الأسوة الحسنة ، و دعوة للدعاة إلى الله على منهج النبوة أن يترسموا معالمها ، و هو أيضاً تأصيل لمبدأ التأثير بالسلوك والعمل وامتداد ميدان الدعوة والمخاطبة لتتجاوز الكلمة المجردة فتمتد عبر ميدان فسيح لتصبح الكلمة وسيلة من الوسائل وأسلوباً من الأساليب لا أن تحصر الدعوة في الكلمة وحدها.
الداعية الأول و الدعوة الصامتة:
إن الدعاة إلى الله سبحانه و تعالى مهما علا شأن قضية الدعوة لديهم ومهما ابتكروا من الأساليب و الوسائل فهم رهن منهج الداعية الأول و الإمام الأوحد صلى الله عليه وسلم، و التحرر من ذلك يعني التحرر من المنهج والعدوان على السنة المتبعة وولوج الطريق المبتدعة ، لذا فنحن نطالب و ندعو أن تأخذ الدعوة بعداً شمولياً لدى أصحابها, أن تأخذ هذا البعد الذي يتجاوز الجمود على الأساليب التقليدية التي يرثونها ، فنحن أيضاً مع ذلك ندعو أن تحاط الدعوة إلى الله عز وجل سياج اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، و أن لا يكون ذلك مدعاةً لتجاوز هديه ، لهذا كان كل داع إلى الله عز وجل أحوج ما يكون إلى أن يحشد النصوص ويحشد الآثار التي تؤيد هذا المنهج الذي يدعو إليه، والتي تعلن للناس أنه لم يأت ببدعه من القول.
في الحديبية دعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس بأن ينحروا بدنهم و أن يحلقوا رؤوسهم فلم يستجب أحد للنبي صلى الله عليه وسلم و قد أصاب الناس ما أصابهم ذلك أنهم جاءوا إلى هذا المكان وهم قد سمعوا الوعد منه صلى الله عليه وسلم أن يدخلوا البيت الحرام و أن يطوفوا بالبيت آمنين محلقين رؤوسهم و مقصرين لا يخافون، فحين أمرهم بهذا الأمر وحين رأوا مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم لقريش وشدهم ذلك الموقف رأوا أبا جندل يرسف في قيوده فيعيده النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشركين ،لم يطق ذلك المؤمنون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يستجب أحد لأمره فيأتي صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة رضي الله عنها فتشير عليه بأن يخرج و لا يكلم أحدا فيدعو بالحلاق فيحلق رأسه، ثم ينحر بدنه فيخرج صلى الله عليه وسلم فيفعل ذلك فيجتمع الناس حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً.
وكان صدق حاله صلى الله عليه وسلم من أعظم ما استدل به بعض من آمن على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم و من هؤلاء عبدالله بن سلام رضي الله عنه إذ قال بعد أن رآه قال: فعرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب. لقد كانت حال النبي صلى الله عليه وسلم ناطقة بصدقه و أنه لم يكن ينطق عن الهوى ، و أنه كان يؤتي الوحي من الله تبارك و تعالى، و أنه كان يأتيهم بخبر من السماء , لذلك كانت حاله وحدها كافية في دعوة الكثيرين إلى الإسلام فمن رآه صلى الله عليه وسلم عرف الصدق في وجهه. و منهم من دخل في الإسلام و آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم لموقف أبصره أو مشهد رآه ، و السيرة تزخر بالكثير من هذه المواقف التي دخل فيها فئام من الناس الإسلام لما رأوه من المواقف ، واختار الله له أن يكون في مبدأ حياته أميناً صادقاً ليكون ذلك مرآة على صدقه، و ليقرأ في سيرته وهديه من سمع بدعوته ؛ الصدق وسمو المنهج ، لقد كان صلى الله عليه وسلم يلقب بالصادق الأمين ، لقد عاش صلى الله عليه وسلم مع قومه أربعين سنة عرفوا منه الصدق والإحسان إلى الناس و الأمانة ، عرفوا منه صلى الله عليه وسلم حسن الخلق ولم يكن يجاريهم في مجونهم ولهوهم ، إن تلك الحال التي كان يعيشها صلى الله عليه وسلم كانت دعوة صامتة وإشارة إلى أولئك الجادين في معرفة الحق أن هذا الرجل الذي عرفوا مدخله و مخرجه ، وعرفوا سيرته لم يكن ليكذب على الله بعد أن كان يتحاشى الكذب على الناس.
وهو أمر لم يختص به النبي صلى الله عليه وسلم بل يحكي الله تبارك و تعالى عن قوم صالح أنهم قالوا ((قد كنت فينا مرجواً قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا))، فقد كانت سيرة صالح في قومه كسيرة محمد صلى الله عليه وسلم و سائر الأنبياء و قد كانوا يرجون فيه الخير ، فلما دعاهم إلى الله تعالى خاب ظن أولئك الظالمين بنبيهم صالح.
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يترسمون معالم المنهج :
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يترسمون منهجاً اختطه لهم النبي صلى الله عليه وسلم لكي تعيش الدعوة حيةً في قلوبهم و ضمائرهم ، فيقرأ ذلك من يطلع على سيرهم قبل أن يسمع أقوالهم ، حين دعا النبي الناس للصدقة و قد جاء قوم وجتاب النمار فرقَّ صلى الله عليه وسلم و هو صاحب القلب الرحيم لحالهم فتألم وخطب الناس دعاهم بأن يتصدقوا بما يملكون من درهمهم و دنانيرهم ، من صاع برهم وتمرهم ، فلم يتصدق أحد فجاء رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع صرة كادت يده أن تعجز عنها بل عجزت فألقاها بين يدي النبي فتتابع الناس بعد ذلك فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم فصار هذا الرجل داعية صامتاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها إلى يوم القيامة , ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة".
وحين استنفر النبي الناس ليغزو الروم ولم يعذر أحداً في ذلك جاء أقوام لا يجدون ما يحملهم يسألون النبي أن يحملهم فلم يجد صلى الله عليه وسلم ما يحملهم فتولوا يبكون لأنهم لم يجدوا ما ينفقون ، ولم يستطيعوا أن يجاهدوا في سبيل الله ، فخلّد القرآن ذكرتهم و سيرتهم ليكون هذا الموقف دعوة لمن جاء بعدهم أن يعيش كما كان يعيش أولئك. إن من لم يفتح له الميدان للجهاد لا يعذر إلا أن يعيش معهم بقلبه وحاله ، وأن ينصح لله ورسوله.
هاهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبعثون رسالة إلى عروة بن مسعود يرجع مشدوهاً لأصحابه يحدثهم بما رأى وقد أدرك أنه أمام جيل آخر دون أن يكون منهم تعبير باللسان.
وهاهي سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تبقى صورة للأجيال ناطقة إذا أراد ، فما أن يتحدث متحدث أو يتكلم متكلم إلا يضطر أن يزين مقالته بمواقف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله وتعلم العلم وغيره من الميادين ؛ ليبقى ذلك الجيل داعية إلى سائر الأجيال في كل صور الدعوة بميدان الجهاد والعلم والعبادة وغيرها.
مزايا الدعوة الصامتة :
إننا حين ندعو إلى أن نكون دعاة لدين الله تبارك و تعالى صامتين بأحوالنا و مواقفنا وسيرنا ونستشهد بذلك بسيرة المصطفى وسيرة أصحابه ومواقف سلف الأمة من بعدهم، نجمع مع إدراك فضيلة التأسي والاقتداء تحصيل مزايا تمتاز بها هذه الدعوة الصامتة ، ومنها :
أولاً: أن الدعوة بالأحوال أبلغ من الدعوة بالقول ؛ فالمرء يستطيع أن يدبج المقال ، و يستطيع أن يحسن الحديث ، وأن يتفوه بما لا يعتقد ، لكن أن يكون ذلك المقال مصداقه حال ذلك الرجل وفعله فهي صورة أخرى وحالة أخرى. لقد أمر النبي الناس أن يحلقوا رؤوسهم وأن ينحروا بدنهم ، وما كان الذين أمرهم النبي من الذين يتلكؤون بالاستجابة وهم أسرع الناس مبادرة للاستجابة إلى أمره صلى الله عليه وسلم و طاعته ، لكن ذلك الأمر القولي أبلغ من حاله حين خرج وحلق ونحر ؛ فكان ذلك الفعل رسالة إلى الناس للاستجابة له صلى الله عليه وسلم ، و لهذا لما أرسل له صلى الله عليه وسلم يوم عرفة بقدح لبن شربه أمام الناس فكان أبلغ دلالة على أنه لم يكن صائماً.
ثانياً: الدعوة الصامتة تدرك من جميع الطبقات ؛ فالكلمة المسموعة أو المقروءة قد يفوق تأثيرها اختلاف المستويات أو مدارك الناس ، والذي يتحدث أمام من ينصت له ، أو يكتب لمن يقرأ له بجد نفسه بين خيارين ، إن حسَّن المقال و ارتفعت لغته فيكون هناك من لا يدرك هذا الكلام أو من لا يفهمه ، وإن كان مقاله دون ذلك شعر المخاطَب أن هذا نزولاً بالكلمة عما تليق بها. أما الذي يدعو الناس بحاله فهو يدعو بدعوة يدركها الجميع و يفهمون مغزاها.
ثالثاً: إن الكلام له أثر عظيم على النفوس ، وكم تترك الكلمة الصادقة من أثر ؟ بل كم تصنع من مواقف ؟ لكن الكلمة الصادقة مهما كانت تبقى عرضة للنسيان ، إنها تبقى فترة ثم تزول ، أما الموقف فإنه يبقى في الذاكرة لا يزول أبداً ، إن النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم كان مع أصحابه فرأى جارية من السبي تأتي لرضيعها و تضمه و ترضعه ؛ فيثيره الموقف صلى الله عليه وسلم وهو الرجل الذي كانت قضية الدعوة وقضية التعليم قضية حية في ضميره صلى الله عليه وسلم فيخاطب أصحابه قائلاً لهم : "أترون هذه طارحة ولدها في النار"؟ فيقول أصحابه : لا ، فيقول صلى الله عليه وسلم :"لله أرحم بعبده من هذه بولدها" فيمضي هذا الموقف ، إن الذين سمعوا الكلمة من النبي صلى الله عليه وسلم ربما ينسون حديثاً منه صلى الله عليه وسلم أما إذا رأوا امرأة ترضع ابنها فإنهم يتذكرون ذلك الموقف الذي سمعوا فيه تلك الكلمة منه صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: إن الكلمة أيضاً تترك أثراً على الناس و تدعوهم إلى العمل والسلك ، لكن ربما يظن البعض من الناس أن هذه الصور التي يتحدث عنها المتحدث أنها صورة مثالية يصعب تطبيقها ، و إذا أمكن تطبيقها فهي في هذا الزمان الذي مرجت فيه العهود وفسد فيه الناس تستعصي على التطبيق ، أما حين تكون دعوة في الحال و موقفاً يراه الناس فإنها دعوة لكل من يرى هذا الموقف أن هذه الصورة يمكن أن تحدث ، إن الذي يسمع عن مواقف الاستشهاد في سبيل الله ربما يهزه هذا الموقف لكنه قد يشعر أن النفوس البشرية لا تطيق هذا القدر من التضحية ، أما حين يرى هذه النماذج أمام عينه فسيدرك أن هذه القضية ترقى إلى ميدان الواقع ، إنه حين يسمع عن الإنفاق في سبيل الله فيرى من يجود بماله، سيترك أثراً في نفسه أقوى بكثير من أثر الكلمة مهما عظمت فصاحتها.
و لهذا اختار الله تعالى أن يكون أنبياؤه من البشر يأكلون الطعام و يمشون في الأسواق ليكونوا قدوة وأسوة للناس.
خامساً: الدعوة الصامتة أعظم إجابة على سبل المضلين والمفسدين ، إن الصراع لا يمكن أن يقف بين أهل الحق و الباطل و ما يلبث أهل الباطل أن يثيروا الشبهات أمام دعاة الحق فيتهمونهم بأبشع التهم ، وهي تهم ورثوها من فرعون حين قال: ((ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو يظهر في الأرض الفساد)), لقد كانوا يتهمون الأنبياء بأنهم سحرة و مجانين وأن أتباعهم ضعفاء ، و اتهموا النبي صلى الله عليه وسلم أنه صابئ و أنه مجنون و ساحر ، و أنه يفرق بين المرء وزوجه ، وما يزال المفسدون الأفاكون الظالمون يثيرون الشبه والتهم على من يتبع سنة الأنبياء ويسير على طريقتهم ؛ فحين تكون حال هؤلاء حالاً صادقة للناس يصبح ذلك أعظم إجابة على كذب هؤلاء وإفكهم.
ما هي مجالات الدعوة الصامتة ؟
1- القدوة والأسوة الحسنة وقد مر بنا نماذج كثيرة تغني عن الاستطراد.
2- التفوق في مجالات الحياة المختلفة ؛ فحين يكون الصالحون والدعاة إلى الله عز وجل هم المتفوقون في مجالات الحياة المختلفة ، فهم المتفوقون في دراستهم و في ميادين العمل ، وهم العاملون الصادقون الذين إذا دخلوا إلى مجال فهم المتفوقون دوماً ، فإن هذا يعطي دلالة على أن هؤلاء صادقون ، وهذا يثبت للناس بطلان ما يسعى إليه الأعداء حين يحاولون أن يفسروا هذه الصحوة بأنها إفراز لحالة نفسية و اقتصادية.
3- الإحسان إلى الناس وتقديم البر لهم والخدمة، لقد كان صلى الله عليه وسلم كما حكت عنه زوجه : يكرم الضيف، ويعين على نوائب الحق، وكان يشفع للناس ويحسن حتى إلى الحيوان، فعندما رأى جملاً قد احدودب ظهره زرفت عينا الجمل إذ رأى في قلبه الرحمة والإحسان فيأتي إليه صلى الله عليه وسلم فيسأل :"أين صاحب هذا الجمل ؟" فيقول: أنا. فيقول: "اتق الله؛ فإنه شكى إلي أنك تجيعه و تتعبه". إن النبي صلى الله عليه وسلم يرسم لنا الأسوة والقدوة في أن نحسن إلى الناس، وأن نسعى إلى تبني قضاياهم وهو من قبله، فهاهو يوسف عليه السلام يقول له أصحابه ((نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين)), فقد رأيا فيه الإحسان إليهما، فالإحسان باب من أبواب الخير، و طريق للتعرف على الناس فيعرف الناس بأن هؤلاء صادقون وأنهم مخلصون.
4- كظم الغيظ و التنازل عن الحقوق الشخصية يقول تعالى (و لا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم)). ويقول تعالى: ((والكاظمين الغيظ و العافين عن الناس)) ،حين يعرف الناس عنا أنا نتنازل عن الحقوق الشخصية ونعفو عمن ظلمنا بل نحسن إليه سيترك ذلك أثره فيهم. حين فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة وتمكن من أعدائه الذين فعلوا معه ما فعلوا وآذوه و أخرجوه، وكانوا يظنون أن هذا الموقف سيكون فيه حتفهم فأطلقهم صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم، وكان ذلك من أعظم الأسباب في دخول كثير منهم في الإسلام؛ لأنهم عرفوا منه الصدق والأمانة والعفو والإحسان قبل أن ينبَّأ، و عرفوا منه ذلك بعد أن نُبَّيءَ وأرسل. وعرفوا منه ذلك بعد أن عادوه و آذوه، وهاهو أحد الصحابة يقول كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء آذوه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه و يقول (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)).
5- الصدق في الدعوة ورفع شعار الخير والصلاح، في صلح الحديبية جاء رجل من بني كنانة موفداً من قريش، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له" فبعثت له؛ فاستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: "سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، ورجع من فوره دون أن يسمع كلمة واحدة من النبي صلى الله عليه وسلم.
6- العاطفة الصادقة المتوقدة في النفس الداعية، وهي إفراز لمشاعر صادقة تكمن في نفسه ما تلبث أن تبدو على أرض الواقع، وعلى سلوكه وفي قسمات وجهه؛ فيقرأها كل من يراه لتترك أثراً يفوق ألف خطبة و ألف محاضرة، ويشعر الناس الذين يتعاملون مع هذا الصنف من الناس بما يحركهم ويدفعهم من الداخل، وما نزال نسمع الكثير ممن يتحدث عن العاطفة حديث الذم و النقد، حتى صار من مراتب الجرح والتنقص أن يقال عن شخص إنه عاطفي متحمس، وهذا الذم لهذا الصنف صار مهرباً لبعض من قد تبلد حسه تجاه المنكرات ومصائب الأمة، فصار حين يطلب منه التفاعل أو تُشتكى إليه الحال يتنهد قائلاً إن الأمور لا تحل بالعواطف ولا تعالج بالحماس، نعم إن الإغراق في العواطف مرفوض، والانطلاق وراء الحماس وحده تهور، لكن الدعوة إلى إلغاء ذلك كله تطرف هو الآخر، ولعل سائل يتساءل هل خلق الله تعالى هذه العواطف عند الناس عبثاً، لم يعد يقبل أهل الطب اليوم أن يكون هناك عضو لا يؤدي دوراً فكيف يقبل أن تكون هذه المشاعر المشتركة لدى العامة من الناس ـ والتي تمثل وقوداً للأعمال و مواقف شتى يقوم بها المرء ـ عبثاً لا فائدة منه و يذم المرء حين يتصف به. إننا حين نذم أولئك الذين يتهورون والذين لا يدفعهم إلا الحماس غير المنتظم، إن هذا لا يقودنا أبداً إلى أن نعذر أولئك المثبطين القاعدين الذين قد تبلد حسهم وماتت أرواحهم، وهم يرون الأمة تُنحر، فهم قد ارتكبوا منكراً آخر قد يكون أشد من منكر أولئك ألا وهو السكوت والقعود عن الحق.
7- المواقف المتميزة التي تشكل صدى لدى معاصريها و معايشيها، وتمتد بعد ذلك عبر أفق الزمن لتخترق حواجزه وتصبح منارة للأجيال، إنك لو تصفحت سير الصحابة فستجد عبارات بالأمر بالصبر و الوصاة به بالأمر بالثبات على المبدأ، لكن ذلك لم يكن مثل المواقف التي سطروها رضوان الله عليهم بالصبر على البلاء و المضايقة، فلا يزال في ذاكرة المسلمين أجمع وما يفتأ الخطباء والمتحدثون يرددون صوراً من صبر بلال وعمار، وتضحية ياسر وسمية، لا يزال هؤلاء يتذكرون تلك الصور، وتترك في نفوسهم أثرا لا تقاربه الأقوال والعبارات.وهكذا تبقى المواقف الصادقة منارة للجيل يقرأها المعاصرون فيكون هؤلاء الذين وقفوا هذه المواقف دعاة للأمة بمواقفهم، ثم يبقون بعد ذلك دعاة للجيل من بعدهم.
هذا و صلى الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
الشيخ الدويش
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى